كانت تجلس هناك في ركن قصي من حجرتها.. منطوية ، تبكي بشدة وتشعر بحزن وبؤس لا نهاية لهما .. كان الوقت متأخر .. الكل نائم بالتأكيد ولا يوجد مخلوق تستطيع ان تحكي معه في هذه الساعة من الليل .. قامت من مكانها وجلست على مكتبها الصغير واضاءت المصباح ثم فردت امامها ورقة بيضاء مقررة أن تشكو لها وتخرج كل ما لديها على صفحتها البيضاء .. نظرت طويلا إلى الورقة في صمت ثم أمسكت القلم وكتبت قائلة:-1
ورقتي .. لم أعد قادرة أن أنظر إلى نصف الكوب الملئان هذا ان كان ملئان أصلا .. حالة من الإحباط تمتلكني هذه الأيام .. الحقيقة أنها كانت تحاول منذ فترة وكنت أقاومها بضراوة وأرفض ان تتملكني ولكنها في النهاية أصابتني وإنتصرت علىّ .. ولا أعرف إن كنت قادرة على الخروج منها أم لا؟
أحاول ان اتذكر تلك الكلمات التي كنت أقرأها أو أسمعها من القليلين حولي عن تلك الحياة الجميلة المشرقة والتي لا يوجد فيها شيء يدعو للإحباط والكآبة .. تلك الكلمات التي تدعوني للتفاؤل والضحك والسرور ولكني ما عدت أشعر بها فكل هذه الكلمات تبدو لي الآن شعارات مأفونة لا قيمة لها.. ودعيني أقول لك أسبابي
إنني أمشي في الطريق وفي كل خطوة اتعثر في شحاذ او شحاذة.. اجلس في القطار وأراهم ينظرون بقسوة إلى تلك السيدة العجوز التي تستعطفهم لتحصل على الملاميم منهم فقط لتأكل وليس أكثر.. ومعظمهم ينظر إليها في كره واشمئزاز ويراها تلك النصابة التي ستحصل على الكنوز منهم والتي تستهل أن تتسول بدل من أن تبحث عن عمل شريف لها.. ولكن ألم يفكروا هؤلاء للحظة؟ .. ألم ينظروا إلى كل تلك الخطوط التي ارتسمت على وجهها ؟.. ألم ينظروا إلى عينيها التي ابيضت من كثرة البكاء على الأيام المريرة التي تعيشها وهذا الذل الذي تراه؟ .. ألم ينظرو إليها وهي لا تكاد تقوى على ان تمشي أصلا ؟ .. فما الذي يدفع سيدة مسكينة مثلها لتطلب وتمد يدها إلا لأنها محتاجة فعلا
وهذا الكم الهائل من البراءة الملقاة في الشارع .. طفل ينتظر مصير أسود ويلقى الموت كل يوم .. يبكي ولا يجد من يسمح عنه الدمع.. يمرض ولا يجد من يداويه .. يصرخ متالماً .. ينتظر من ينتشله من تلك الحياة القاسية ولكن لا حياة لمن تنادي .. حتى من يحاول مساعدة هذا البائس، يساعده من بعيد ولا يجرؤ على الأقتراب من ذلك الكلب الأجرب حتى لا يعديه .. وبعد ذلك نحاكمه لأن الوغد قاتل ومدمن وسارق وكأنه هو من اختار مصيره بنفسه ولم نرسم له نحن طريق الهلاك بأيدينا
أما شباب اليوم ، جيل المستقبل ، الامل .. طاقة النور الذي لم يتعلم في حياته غير الفراغ والسطحية والمهارة الفائقة في تضييع الوقت .. ذلك الشباب الذي هو نتاج نظام التعليم الرائع الذي يعرف جيدا كيف يغلق العقول .. ولأن الشباب يعرف كما يقول هو بنفسة ان " مافيش فايدة" "فكبر الجمجمة" وظل طوال حياتة تائه لا يعرف فيما عاش ولا فيما مات
وهناك الذي تركها وسافر ثم عاد ناقم على كل شيء .. يكره البلد ويسب من فيها وكأنه ليس منهم ولا يتصف بصفاتهم .. عاد ناكر لكل شيء وأي شيء .. وكل ما على هذا الهمام هو ان يسب ويسب ويسب .. ولكن لا مجال عنده لمحاولة التغيير لأن هؤلاء المصريين سلبيين ومتخلفين وحمقى ورؤوسهم فارغة ومهما حاولت معهم فلن تنجح و و و و و .. ولا تحاول ان تجادل معه فهذا العقبري يعرف أكثر لأنه عاش مع الغرب حيث التقدم والديمقراطية والحرية و.. ..و.. ..و
أذكر ما قرأت في الكتب القديمة والحديثة عن حضارة عظيمة وصلت مسامعها إلى بلاد المشرق والمغرب لأفتح عيني على حضارة منهارة .. وأرى الدولة تموت وراء الدولة وكأنها ذبابة حقيرة تستحق القتل ولا تستطيع الدفاع عن نفسها .. فيها أطفال يموتون قبل أن يولدون وأطفال يعيشون ليعرفوا معنى الموت .. أما أهل هذه الدولة فيقاتلون بعضهم بعضا على شيء لا وجود له أصلا ويتركون عدوهم الذي يتربص بهم ويسعى لدمارهم يرقب ما يفعلون بنشوة بل تكاد من مكانك تسمعه يضحك ساخرا بصوت عال لأنهم جعلوا من أنفسهم فريسة سهلة له
أنا لن أذكر نفسي بماضي أقل ما نصفة به هو أنه "كان" ولن أبشر نفسي بمستقبل لا يمكنني رؤيتة لأنني أجلس هناك في بئر عميق جدا مظلم من جميع جوانبة فكيف لي أن أرى من موقعي هذا المستقبل .. كيف لي ذلك؟ .. الحقيقة الوحيدة التي أعرفها الآن هو أن السعادة وهم اخترعناه .. حلم جميل نعيشة للحظات قصيرة ثم نستقيظ على واقع مؤلم مرير وهؤلاء الذين استمعت لهم وصدقت أكذوبتهم عن السعادة والتفاؤل والحياة الوردية .. ليسوا سعداء أصلا بل هو مجرد إدعاء أحمق وإلا فلما ينهار معظمهم عند أول عقبة تواجهه ولما يموت معظهم بالاكتئاب؟
ورقتي .. ليس من طبيعتي الحزن فأنا أكره الحزن ولكني ما عدت أرى شيئا يدعوني لكي أسعد
تركت القلم ونظرت طويلا الى الورقة التي لم تعد صفحتها بيضاء كما كانت .. وبداخلها كان يدور صراع عنيف جعلها تتسائل هل أظل كما أنا بمبادئي مؤمنه أنني سأرى حياة أفضل يوما ما أم استسلم لنصف الكوب الفارغ؟؟؟